تحياتنا للأصدقاء في النجوم. يا ليت يجمعنا الزمان..

إنَّ للبشر وجوداً بيناً على هذه الأرض. خرجوا من بدايات ضعفٍ وخوفٍ، بجسدٍ لا يقوى على مصارعة الوحوش التي تسكن البرّ، وبمهاراتٍ قليلةٍ نسبياً. يكاد الناظر إليهم يُقسم باستحالة اختلافهم عن باقي الكائنات الحية، بل وقد يكونون أكثر عُرضةً لانقراضٍ جماعي. يعيشون في مجموعاتٍ صغيرة، ويحاربون بعضهم البعض على أبسط الأمور كغيرهم من الحيوانات. يقتل الأخُّ أخاه، ويسرق الجارُ جاره، بل وقد يمحو أحدهم أمةً عن بكرة أبيها من دون أن يرف له جفن. هم فعلاً لا يختلفون كثيراً عن غيرهم من وحوش البرية، وحوشٌ هالكةٌ لا محالة بعد أن تلقى وحوشاً أقوى منها. ولن يكون ذلك صعباً بالنظر لإمكانياتهم المحدودة.
لكن تمر السنين على هذا المخلوق، وينتقل من حالة ضعفٍ إلى سيطرةٍ كليةٍ على كوكبه. ما زال هو نفسه الإنسان الضعيف، بل قد يكون أضعف الآن. سربٌ من البعوض قد يمحو أمةً من أممهم، بل كائناتٌ صغيرةٌ لن يقدروا على رؤيتها كادت أن تبيدهم أكثر من مرة. لكنهم ينجون كل مرة. لديهم ذلك الشيء الذي يسمونه عقلاً. يميزون أنفسهم عن باقي الكائنات الحية بمدى تطور كتلة الأعصاب تلك. حقاً هي مقدرةٌ عظيمةٌ تعطيهم قيمةً أكثر من المتوقع؛ بفضل كتلة الأعصاب هذه، طوروا طرق تواصلٍ معقدةٍ يسمونها لغات. مكنتهم هذه اللغات من عقد اتفاقياتٍ وفهم بعضهم البعض بشكلٍ أفضل. في الحقيقة، كانت اللغة مفتاح توسعهم الذي حولهم من مجموعاتٍ صغيرة إلى حضاراتٍ لا تكاد ترى أولها من آخرها.
المثير للاهتمام أنهم ما زالوا يحتفظون بخصالهم البدائية والمليئة بالضعف. ما زالت الغريزة تحركهم مثل الحيوانات، وما زالوا يقتلون بعضهم البعض، ويوشكون على محو جنسهم من الوجود. كانت أسلحة الإنسان تُستخدم للصيد والدفاع عن حياته في البداية، إلا أنهم طوروها لقتل بعضهم البعض بعد أن تمكنوا من اجتياز عقبة البرية وكائناتها. صاروا يصارعون غيرهم من البشر على أجزاء الكوكب وموارده. لعلهم لم يخرجوا من الإطار القبلي الذي عهدوه، لكنهم توسعوا بعض الشيء. صارت مجتمعاتهم تمثل دولاً من ملايين الأفراد بدل العشرات.
بضعة عشرات الآلاف من السنين الشمسية كانت كفيلةً بجعل هذا الكائن يتطور من الصيد البدائي، حيث كان بالكاد قادراً على مجاراة خصومه من وحوش البراري، إلى كائنٍ يسدُّ حاجاته الغذائية بالاعتناء بالنبات. وفي أقل من عشرة آلاف سنة، صار هذا الكائن البدائي قادراً على إنتاج كمٍّ هائلٍ من الأدوات والابتكارات وبسرعةٍ ودقةٍ عاليتين. بل اخترع طرقاً تجعل من نظام تصنيع هذه الأدوات مستمراً من دون وجوده وتدخله المستمر. وبأقل من مئة سنةٍ من تلك المرحلة، اكتشفوا أن العالم من حولهم مصنوعٌ من ذرات، وأنهم باستخدام هذه الذرات سيتمكنون من إنتاج كمٍّ عالٍ من الطاقة. بالطبع، لم يجربوا الطاقة تلك في العمارة والتطور، لكنهم، بعقليتهم البدائية، قرروا أن يصنعوا من هذه الطاقة أسلحةً تمحو مدناً عن بكرة أبيها.
تغمر الإنسان فرحةٌ بدائيةٌ بسيطةٌ عندما يرى نفسه متمكناً، فيحاول كسب القوة بحشد الجيوش وبناء اسلحة اعظم واكبر، ويعقد الخطابات الرنانة لكسب مجاميع جديدة في صفه. كلما ازداد عدد المؤمنين بالبشري الملهم، زاد إصراره على كسب مطالبه، أياً كانت تلك. ما زالوا يشعرون بالقوة بعددهم مثل أبسط الحيوانات على الكوكب.

لكن قبل أن يصر الواحد على هلاكهم ببدائيتهم تلك، يُستحسن النظر ملياً إلى هذه الكائنات. أي نعم، لا تزال فيهم اللوثة البرية كحال غيرهم من كائنات الأرض، ولكن فيهم خصالٌ غريبةٌ للغاية. بعضهم مستعدٌ للتضحية بنفسه من أجل أناسٍ لا يعرفهم حتى. البعض مستعدٌ لأن يموت، ويموت معه كل من يعرف من أجل قضيةٍ يؤمن بها. هذه الكائنات الحمقاء لديها شيءٌ من النظرة الحالمة للوجود. بعد كل أنهار الدماء التي سفكوها، ما زال الأمل يغمر عيونهم التي تعكس لهم العالم. ما زال فيهم الأفراد الذين يدفعون عجلة التطور. لا يمكن تفسير الكثير مما يقومون به باستخدام مستوى تطور أدمغتهم فحسب. في الحقيقة، هم غير منطقيين البتة. أحياناً يختارون تجاهل أبسط غرائز البقاء، وكأنهم يصلون إلى مرحلة فناءٍ تامٍ بينما متجاهلون أدمغتهم، رافضين كل ذرةٍ منطقٍ كانوا يملكونها.
الكائنات تلك بعثت برسالةٍ خارج كوكبها، وفي تلك الرسالة بعض لغات الإنسان، وبعض ما وجده مهماً على مرّ تاريخه القصير. يصرخ الإنسان في الفلك الواسع قائلاً، وبكل تعجرفٍ وبله: “مرحباً للأصدقاء في النجوم. يا ليت يجمعنا الزمان..”
One thought on “معنى ان تكون انسانا”
سيد قطة سيفروس مر من هنا